Get Inspired

التعليم لمواجهة المستقبل: دروس من الصحراء

درو كاتاوكا

Blog Single

كنت هناك أحدّق في عين جمل لطيف بعد أن أنهيت للتو رحلة طويلة دامت 16 ساعة من سان فرانسيسكو إلى أبوظبي. كنت محاطة بعشرات المعلمين القادمين من بلدان عدة. وخلال زيارتنا لقرية بدوية تاريخية كجزء من رحلة ثقافية عشيّة منتدى "قدوة" العالمي للمعلمين في أبوظبي، شعرت بمفارقة كبيرة نابعة من هذا المكان، إنها مفارقة تُرخي بعباءتها على الإمارات العربية المتحدة نفسها. إذ مع أننا كنا محاطين بأحدث ما أنجزته الهندسة المعمارية، كنا فعلياً في واحة تنتمي إلى عقود ماضية في وسط مدينة عالمية.


أنا فنانة وتقنية أعمل في وادي السيليكون، ولذلك تُعتبر رعاية الإبداع إحدى اهتماماتي الرئيسية. كنت لعدة سنوات محكّمة لجائزة المعلم العالمي (وهي مبادرة تمولها مؤسسة "فاركي" لتعزيز التدريس الإبداعي على الصعيد العالمي). ودُعيت إلى أبوظبي للتحدث أمام جمهور عالمي مكوّن من 1,000 معلم ينتمون إلى 80 دولة.


شهدت دولة الإمارات العربية المتحدة واحدة من أكثر التحولات سرعة في التاريخ، حيث انتقلت من جذورها البدوية منذ ما يزيد قليلاً عن نصف قرن، إلى حالة جعلتها رائدة في الآفاق المستقبلية اليوم. والآن، تتمحور مبادرة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي، حول تثقيف الشباب الإماراتي. وكان هذا هو موضوع منتدى قدوة "التعليم لمواجهة المستقبل"، حيث يعالج المنتدى أكبر مشكلة لدينا مع أنظمة التعليم الحالية في جميع أنحاء العالم. فهي أنظمة متعثرة في رمال الماضي. وبينما يحثّ العالم خطاه نحو مستقبل التكنولوجيا المتسارعة التطور بشكل مذهل، فإننا نثقل كاهل شبابنا بالتعليم الذي يعدّهم للماضي بدلاً من المستقبل.


وعبّر المفكر المستقبلي ألفين توفلر عن هذا الأمر ببلاغة عام 1970، في كتابه الكلاسيكي "صدمة المستقبل"(Future Shock). فقد لاحظ أن المدارس صُممت لتكون على غرار خط التجميع الصناعي. إذ ينتقل الطلاب بشكل جماعي من غرفة إلى أُخرى عند قرع الجرس، ليتم حشو المعلومات نفسها بطريقة لا تراعي الفروق الفردية بينهم. وكان نظام التعليم الذي ورثناه أشبه بمصنع صدئ ينتج عمالاً للعمل ليست لديهم أية خبرة. ولهذا فقد انخفض عدد هذه الوظائف، وهي ما زالت في تناقص متفاقم سواء من حيث العدد أو الأجر. ولكننا بدلاً من ذلك، علينا أن نحاول إعداد موظفين مؤهلين للانخراط في سوق العمل الذي يتطور بسرعة في ظل انتشار العولمة، حيث يتم مكافأة الإبداع، وسرعة الاستجابة، والتعلم مدى الحياة، وريادة الأعمال. فكيف نغير هذا الواقع؟


لعب هذا السؤال دوراً جوهرياً في صلب العديد من المحادثات التي دارت في منتدى قدوة. وبرزت ثلاثة مواضيع رئيسة هي: رعاية الإبداع، والتحضير لعالم الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، وتحقيق قدر أكبر من الجدارة في التدريس.


1) رعاية الإبداع: كسر العزلة التي تفصل التخصصات


قال توفلر في إحدى ملاحظاته الأكثر جوهرية: "تلعب الافتراضات الصناعية دوراً جوهرياً في تصنيف المعرفة ضمن تخصصات دائمة". وفي واقع الأمر، ما يزال معلمو الفيزياء يكتفون بتعليم الفيزياء وما يزال معلمو الفن لا يتخطّون تعليم الفن. ومع ذلك، يقوم هذا النهج الانعزالي بعرقلتنا جميعاً. وفي هذا السياق، توصلت دراسة رائدة أعدّها الدكتور روت برنشتاين من جامعة ولاية ميشيغان إلى حقيقة مفادها وجود ارتباط إيجابي بين أهمية إنجازات العلماء وتمتعهم بطموح فني كبير. وكدليل على ذلك انظر إلى الحقيقة التالية: يُعتبر الحائزون على جائزة نوبل أكثر احتمالاً بخمس وعشرين مرة من العالم العادي على ممارسة الغناء أو الرقص أو التمثيل، وبسبع عشرة مرة على أن يكونوا فنانين بصريين، وباثنتي عشرة مرة على أن يكتبوا الشعر والأدب.


وأوضحت في كلمتي التي ألقيتها ضمن المنتدى، الدور الجوهري الذي تلعبه المساعي الفنية في مساهمات العديد من العباقرة مثل ألبرت أينشتاين، وريتشارد فينمان، والأخوين رايت وستيف جوبز.


لذلك، اقترحت قاعدة الـ10%: يجب على معلمي العلوم إنفاق 10% من وقت التدريس لتسليط الضوء على الروابط الفنية الموجودة فيما يعلّمونه. وعلى العكس من ذلك، ينبغي أن ينفق معلمو العلوم الإنسانية 10% من وقتهم التدريسي في شرح الأسس العلمية لموادهم. والهدف من ذلك هو رعاية عقول أكثر إبداعاً بحيث تكون متعددة التخصصات.


2) التحضير للعالم الافتراضي والذكاء الاصطناعي: محو الأمية البصرية والقيم


كيف نثقّف أطفالنا لنعدّهم لهذا العالم الافتراضي؟، كيف نضمن أن يصبحوا خلّاقين، عوضاً عن الاكتفاء بدور المستهلكين؟، كيف نضمن أن يكونوا جزءاً من الطبقة الإبداعية العالمية الجديدة؟، كانت هذه الأسئلة تحوم في رأس الجميع ضمن المنتدى.


نحن اليوم على مشارف تحوّل هائل مماثل لاختراع السينما. إذ سيشكّل الواقع الافتراضي والواقع المعزز جزءاً هاماً من حياتنا في المستقبل القريب. ففي الشهر الماضي مثلاً وضع مارك زوكربيرج هدف تحطيم رقم مليار شخص في الواقع الافتراضي قريباً. ولابدّ أن يأتي الوقت المناسب الذي سيبتلع فيه الواقع الافتراضي الإنترنت والتلفزيون، إذ سينتشر بشكل يفوق انتشار كلّ منهما.


تلعب التصورات البصرية دوراً غير متناسب في الواقع الافتراضي. لذلك يكمن الإبداع المستقبلي للبشرية كما هو الحال مع العقلانية المستقبلية للبشرية في نسبة الذكاء البصري والتذوّق البصري الجيد من قبل أولئك الذين سيبدعون هذه البيئات الافتراضية المستقبلية. ولم يواجه الفنانون تحدياً من هذا القبيل مسبقاً: (بناء عوالم جديدة ضخمة، ذرة إثر ذرة، وبكسل بعد بكسل)، حيث سنُمضي خلال هذه التحديات معظم حياتنا. ولابدّ أن يكون شبابنا على مستوى هذه المهمة.


ثانياً، ستلعب القيم دوراً بالغ الأهمية في الواقع الافتراضي. ربما يعترض البعض من زملائي التكنولوجيين متعللاً بأنّه لا مجال للقيم في التكنولوجيا. ولكنني أجزم لكم أنّ للقيم مكاناً لا يمكن إنكاره في عالم التكنولوجيا. فهناك تأثير هائل للأسس الخوارزمية للتعاملات البشرية وطريقة ولوجنا إلى عالم المعرفة بالإضافة إلى ما يتوفر لدينا بالفعل على العوالم الافتراضية وعلى مجتمعنا المستقبلي. ومع وجود شبكات التواصل الاجتماعي وخوارزميات التصفية التعاونية، أهملنا الطرق التي عززت هذه القيم من خلالها صدى أفكار رائعة، الأمر الذي نتج عنه مشاكل يحتاج حلّها إلى عقود من الزمن. دعونا نثقف مهندسينا بشكل جيد، حتى نتجنب ارتكاب هذا الخطأ مرة أُخرى في الواقع الافتراضي.


3) الاستحقاق في التعليم


إليكم هذا التناقض: يُعتبر المعلمون مؤتمنين على أثمن رمز في الكون ألا وهو حامل مورثات الإنسانية. كما أنهم مسؤولون عن أسرع آلات تعلّم لدينا ألا وهي أطفالنا. ومع ذلك يتم التعامل مع هؤلاء المعلمين وتعويضهم على النحو الذي كان عليه الحال مع عمال مصانع أوائل القرن العشرين، وليس على النحو الواجب لما هم عليه في الواقع: كعاملين في مجال تكنولوجيا المعلومات. لابدّ من تغيير هذا الواقع.


في الختام، ربما تتساءل عند هذه النقطة من حديثنا، ما معنى كلمة "قدوة"؟، إنها تعني باللغة العربية "نموذجاً يُحتذى". وهذا هو الدور الذي لعبه المعلمون لعدة قرون. ومع ذلك، نواجه منعطفاً حرجاً في وقتنا الراهن، إذ تواجه قيمة التعليم تحديات خطيرة على جبهات متعددة. يحتاج كل بلد على وجه السرعة إلى تكييف أساليبه التعليمية، بحيث يمكن لمعلميه أن يظلوا قدوة يحتذى بها للقرن المقبل وما بعده. وسيؤثر مدى نجاح الدول في ذلك على قدرتها التنافسية العالمية وقدرتها على قيادة الثورة الصناعية الرابعة.