مقبل العيدان
مقبل العيدان
يلتبس على كثير من جامعاتنا في العالم العربي فهم أصل وطبيعة وظيفتها الثالثة المتمثلة في الخدمة والشراكة المجتمعية. إذ يعود مصدر هذا اللبس إلى إخفاق هذه الجامعات في تعريف المجتمع على النحو السليم، وتحديد مكوناته، ومن ثم ترتيب هذه المكونات بالشكل الذي يسمح بربط الحاجات المتعلقة بكل مكون مع القدرات والإمكانات المتاحة ضمن الجامعات. وذلك حسب ثقل الوزن النسبي لكل حاجة من تلك الحاجات. فالمجتمع (Society) في تركيبته الضيقة هو الفرد (Individual) المتفاعل مع نظرائه، ومن ثم هو المجموعات الاجتماعية (Social Groups) الناتجة عن هذا التفاعل، كما يُعتبر بعد ذلك العلاقات (Relationships) التي تنشأ بين هذه المجموعات لتشكل المجتمع في تركيبته الأوسع. وهنا من المهم إدراك أن الأصل في شبكة العلاقات تلك هو التغير وعدم الجمود، وذلك حسب تعبير عالم الاجتماع الاسكتلندي روبرت موريسون (Robert Morrison). ما يعني أنّ كل تغيير في هذه العلاقات، سيصاحبه ولادة لتحديات وفرص اقتصادية من شأنها أن تُستثمر بواسطة الجامعات. فالجامعات، حسب ما وصفها وزير التعليم العالي والمهارات السنغافوري أونغ يي كونغ (Ong Ye Kung) في القمة الأسيوية لطلبة الجامعة (Asian Undergraduate Summit)، بمقدورها أن تصبح قوة توليد اقتصادية ضخمة في مجتمعاتها. حيث تُعتبر الأقدر على تطوير حلول تساهم في اقتناص الفرص ومجابهة التحديات ذات العلاقة بكل مجتمع.
وعلى سبيل المثال، تصف جامعة فيينا النمساوية وظيفتها الثالثة باعتبارها الوظيفة التي من شأنها معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية المتصاعدة عبر تسخير أمثل لمعارفها البحثية التدريسية والابتكارية لخدمة الأغراض الخاصة بسياقات اقتصادية مختلفة. وبالمثل، تعمل جامعة دبرتسن (University of Debrecen) أعرق جامعات المجر، على تعريف وظيفتها الثالثة، بأنها الميل نحو الاندماج مع محيطها الاجتماعي والتأثير الذي يحدثه هذا الاندماج على المجتمع بعمومه ومجتمع الأعمال على وجه الخصوص. ويجب أن يصاحب هذا التقدير القيم من قبل الجامعات لضرورة الانخراط في توليد حلول اقتصادية للمشاكل الحياتية في مجتمعاتها المحلية تقدير آخر لنوع الأداة الملزم استخدامه لإنجاح مساعي الجامعات في تنفيذ وظيفتها الثالثة. ما يدفعنا لتحفيز الجامعات نحو تبني التفكير التصميمي (Design Thinking) كأداة مثلى لتوليد الحلول الموجهة صوب المشكلات الاجتماعية. فما هو التفكير التصميمي؟، وكيف يجب أن يُؤسس له داخل جامعاتنا على النحو الذي يسمح لها بالتأثير اقتصادياً ضمن مجتمعاتها؟
في تقرير منشور عبر مكتبة البنك الدولي، يرى تيم براون الرئيس التنفيذي لشركة (IDEO) الدولية للتصميم وجوسلين وايت (Jocelyn Wyatt) رئيس مشارك في نفس الشركة، أنّ التفكير التصميمي هو نظام متداخل المساحات، يبدأ بمرحلة الإلهام (Inspiration)) ثم ينتقل إلى التصور (Ideation) إلى أن ينتهي خلال مرحلة التنفيذ (Implementation)، وهو حسب تعبيرهم ما يمكن تعريفه بشكل موجز على أنه التأثير عبر التصميم. فالإلهام المقصود هنا هو الذي يتشكل ذهنياً من خلال فهم احتياجات الناس ومشاكلهم المتصلة بحياتهم اليومية. وتعظيم الرغبة في تلبيتها وحلها عبر تطوير منتجات أو خدمات ذات تأثير اجتماعي. أما ما يتصل بمرحلة التصور، فيكمن في القدرة على تقديم تصورات من شأنها أن تتحول إلى حلول لمشاكل قائمة أو فرص للتغيير، شريطة أن تصدر هذه التصورات عن مجموعة عقول متمايزة بخلفيات مختلفة. وأخيراً، فمن خلال التنفيذ تصل عملية التفكير التصميمي إلى ذروتها عبر الاستقرار على حل من مجموعة حلول سبق توليدها خلال مرحلة التصور، ومن ثم تحويل هذا الحل إلى خطة عمل تتضمن تطوير نماذج للمنتج أو الخدمة، ثم الاختبار وإعادة الاختبار، وبعدها الصقل والتطوير النهائي التام. وبالنظر إلى المراحل الثلاث، فإنّ المأمول من جامعاتنا العربية أن تتحول عقلياتها الجمعية من مجرد عقليات قائمة على خدمة المجتمع من خلال التدريس والتثقيف إلى عقليات تخدم المجتمع من خلال التأثير فيه وتحسين أنماط العيش والحياة الخاصة به، بحيث تنخرط الكتل البشرية الضخمة في جامعاتنا من طلبة وباحثين في المراحل الثلاث للتفكير التصميمي على أوسع نطاق ممكن.
وللتفصيل أكثر حول المنافع الاقتصادية والاجتماعية المتحققة من خلال عملية التفكير التصميمي داخل الجامعات، من الضروري استعراض تجارب بعض الجامعات في التأسيس لتعليم قائم على خدمة المجتمع عبر التفكير التصميمي. فجامعات ستانفورد (Stanford University) الأميركية، وبوتسدام (University of Potsdam) الألمانية، وكيب تاون (Town University of Cape ( الجنوب أفريقية، إضافة إلى جامعة آلتو (Aalto University) الفنلندية، أسست كل منها لكيانات في شكل معاهد أو مصانع للتأثير في مجتمعاتهم المحلية عبر التفكير التصميمي. ففي مدرسة التفكير التصميمي بجامعة ستانفورد على سبيل المثال، يؤمن القائمون على المدرسة أنّ كل شخص يمتلك المقدرة على صنع التغيير والإبداع، ولهذا السبب، تعمل المدرسة على تحريض طلبة الجامعة للنزول إلى الشارع، ومراقبة سلوكيات البشر، والتحدث إليهم لاستيعاب احتياجاتهم ومصادر الفوضى والانزعاج في حياتهم، ثم العمل على تطوير ما ينسجم مع ذلك من حلول في شكل منتجات وخدمات. وهذا ما دفع اثنان من طلبة المدرسة إلى تمضية الكثير من الوقت في مقاهي القهوة بمدينة بالو ألتو في ولاية كاليفورنيا لاستكشاف مصادر الانزعاج لدى الناس، الأمر الذي مكنهما من تحديد أكثر ما يعاني منه زبائن المقاهي من مشاكل حياتية بشكل مشترك. حيث تبين أنّ المشكلة المشتركة الأبرز تكمن في سيل الأخبار الذي يتلقاها الناس من مصادر متعددة ومختلفة، ما ألهمهم لاحقا إلى تطوير تطبيق (Pulse) في العام 2010 كقارئ للأخبار بخصائص تسمح للمستخدم بتخصيص تفضيلات الأخبار الخاصة به، وبالتالي المساهمة في حل هذه المشكلة. وفي مدرسة التفكير التصميمي بجامعة كيب تاون، حفزت حاجة الأشخاص في جنوب أفريقيا للحصول على دخل إضافي، خمسة من طلبة المدرسة على تطوير (Rent My Ride) كمنصة اقتصاد تشاركي تتيح لهم تأجير سياراتهم الشخصية على نظرائهم الراغبين بذلك. واليوم، هنالك الكثير من الحلول المشابهة التي يجري توليدها بشكل مستمر بواسطة طلبة من تخصصات ومساقات علمية مختلفة في الكيانات الخاصة بالتفكير التصميمي ضمن الجامعات، ما جعل من هذه الكيانات مصدراً لكثير من الشركات الناشئة وقصص النجاح. فجامعة ميونيخ التقنية (Technical University of Munich) وحدها وبحلول عام 2016، ساهمت في خلق أكثر من 800 شركة ناشئة قائمة على تصميم حلول من شأنها إحداث تغيير اجتماعي واضح في حياة البشر. وما يعظّم أهمية الشركات المُحفزة من خلال التصميم Design-driven companies))، هو ما أظهرته دراسة حديثة صادرة عن معهد إدارة التصميم (The Design Management Institute) من تفوق لأداء الشركات المُحفزة عبر التصميم في الولايات المتحدة الأميركية على غيرها من الشركات بنسبة 228%، وذلك في الفترة حتى نهاية العام 2014. وفي السياق ذاته، أظهرت دراسة صادرة عن إحدى شركات الاستثمار العالمية فورستر (Forrester) في عام 2014، أنّ الشركات المُحفزة من خلال التصميم والإبداع لديها فرص أكبر في الحصول على حصة سوقية تزيد ضعفاً ونصف عن غيرها من الشركات.
كل ذلك، يدفعنا نحو التفكير بجدية في الترسيخ لثقافة التفكير التصميمي في جامعاتنا العربية، بالشكل الذي يجعلها بيئة حاضنة للكثير من الشركات المُحفزة عبر التصميم. فجامعاتنا اليوم، بأمس الحاجة لإعادة إنتاج تجارب نظيراتها من الجامعات غير العربية في تأسيس كيانات تهتم بالتفكير التصميمي، لاسيما أنها تقع وتتفاعل مع مجتمعات مليئة بالتحديات التي تخل بحياة الكثير من الناس وتجعل من حياتهم أصعب وأكثر تعقيداً. إذ يقابل هذه التحديات فرصاً متصلة بمجالات التعليم، الرعاية الصحية، النقل، الإيواء، الرياضة وغيرها، وتستحق من جامعاتنا النظر في إمكانية الاستثمار فيها من خلال التفكير التصميمي، وذلك كأداة فاعلة لخدمة مجتمعاتها.